top of page
2202e2e0-d8f9-4819-bc9d-00fb37a30a02.webp

التسامح الإسلامي مع الآخر 

مبادئه وصوره

التسامح الإسلامي مع الآخر مبادئه وصوره

بقلم: أ. د أنمار أحمد محمد

جامعة السلطان محمد الفاتح

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

       إن مبادئ التسامح الديني في الإسلام والتي قامت عليه حضارتنا الإسلامية توجب على المسلم أن يؤمن بأنبياء الله جميعا فيذكرهم بالإجلال والاحترام، وأن لا يتعرض لا تباعهم بسوء ويكون معهم رقيق الجانب، حسن المعاملة ولين القول، يحسن جوارهم، ويعودهم إذا مرضوا، ويقبل ضيافتهم، ويصاهرهم حتى تختلط الأسرة وتمتزج الدماء.

     وكما للمسلم واجبات فإن للدولة الإسلامية واجبات أيضا تجاههم منها: أن تحمي أماكن عبادتهم، وأن لا تتدخل في عقائدهم، ولا تجور عليهم في حكم، وتسويهم بالمسلمين في الحقوق والواجبات العامة، وأن تصون كرامتهم، وحياتهم، ومستقبلهم، كما تصون كرامة المسلمين وحياتهم ومستقبلهم.

     ولا يجوز أن يفهم هذا التسامح الإسلامي الذي جعله الإسلام أساسا راسخا لعلاقة المسلم مع غير المسلم على أنه انفلات أو استعداد للذوبان في أي كيان من الكيانات التي لا تتفق مع جوهر هذا الدين، فهذا التسامح لا يلغي الفارق أو الاختلاف لكنه يؤسس للعلاقة الإنسانية التي يريد الإسلام أن تسود حياة الناس فالتأكيد على الخصوصيات العقائدية والحضارية والثقافية لا سبيل إلى إلغائها ولكن الإسلام لا يريد لهذه الخصوصيات أن تمنع التعارف بين الأمم والشعوب والتعاون فيما بينها. (1)  

    وكما أن للتسامح الديني في الإسلام مبادئ وواجبات فإن له أيضا درجات ومراتب، فالدرجة الدنيا من التسامح: أن تدع لمخالفك الحرية الدينية في إختيار مذهبه وعقيدته، وأن لا تجبره بالقوة على اعتناق ما تذهب إليه بحيث إذا أبى طاعتك حكمت عليه بالموت، أو العذاب، أو المصادرة، أو النفي، أو غير ذلك من ألوان العقوبات والاضطهادات التي يقوم بها المتعصبون ضد مخالفيهم في عقائدهم لذا فلابد أن تدع له حرية الاعتقاد .

     والدرجة الوسطى من التسامح: أن تدع له حق الاعتقاد بما يراه من ديانته ومذهبه ومن ثم لا يتم التضييق عليه بترك أمر يعتقد وجوده أو فعل أمر يعتقد حرمته. فإذا كان اليهودي يعتقد حرمة العمل يوم السبت فلا يجوز أن يكلف بعمل في هذا اليوم لأنه لا يفعله إلا وهو يشعر بمخالفة دينية، وإذا كان النصراني يعتقد بوجوب الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد فلا يجوز أن يمنع من ذلك في هذا اليوم.

والدرجة التي تعلوا هذه في التسامح: أن لا يتم التضييق على المخالفين فيما يعتقدون حلة في دينهم أو مذهبهم، وان كنت تعتقد إنه حرام في دينك أو مذهبك، وهذا ما كان عليه المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة إذا ارتفعوا إلى الدرجة العليا من التسامح. (2)

       ولعل أسمى معاني التسامح الإسلامي نحو الآخر ما أورده الفقيه الأصولي المحقق شهاب الدين القرافي من كلمات نيرة شارحا ما يعني مفهوم البر الذي أمر الله (سبحانه وتعالى) المسلمين به في شان أهل الكتاب فذكر من ذالك: "الرفق بضعيفهم، وسد خلة فقيرهم، وإطعام جائعهم، واكساء عاريهم، ولين القول لهم – على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والمذلة – واحتمال إذايتهم في الجوار – مع القدرة على إزالته – لطفا منا بهم لا خوفا ولا طمعا، والدعاء لهم بالهداية، وأن يجعلوا من أهل السعادة ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم وصون أموالهم، وعيالهم، وأغراضهم، وجميع حقوقهم، ومصالحهم، وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم إلى جميع حقوقهم".

      وهذا الفهم الحقيقي لجوهر التسامح في الإسلام يفسر لنا قيام واستمرار الحضارة الإسلامية عبر العصور على أساسٍ متينٍ من التعايش والتسامح الإسلامي مع الآخر من أهل الديانات والملل والعقائد في البلدان التي فتحوها ، ولو ذهبنا نستقرئ شواهد التاريخ لطال بنا ذلك .

      إن التاريخ يروي لنا أن كثيرا من الكنائس إبان الفتح الإسلامي كان يصلي فيها المسلمون والمسيحيون في آن واحد، فقد سمح النبي (ﷺ) لنصارى نجران أن يصلوا في مسجده بجانب المسلمين وهم يصلون صلاتهم، وفي كنيسة يوحنا الكبرى في دمشق - التي أصبحت الجامع الأموي فيما بعد - رضي المسيحيون أن يأخذ المسلمون نصفها ورضي المسلمون أن يصلوا فيها صلاتهم فكان يرى في وقت واحد أبناء الديانتين يصلون متجاورين هؤلاء يتجهون إلى القبلة وأولئك يتجهون إلى الشرق، وإنه لمظهر عجيب فريد في التاريخ له مغزى عميق في الدلالة على التسامح الديني الذي بلغته حضارتنا.(3)  

       وموقف رائع وصورة جميلة باهرة أخرى تؤكد عظمة الإسلام في احترام حقوق الآخرين، فقد كان القائد المسلم قتيبة بن مسلم الباهلي (رحمه الله) في شرق الكرة الأرضية يفتح المدن والقرى وينشر دين الله في الأرض، ويفتح الله على يديه مدينة سمرقند، سنة (99ه) افتتحها بدون أن يدعوَ أهلها للإسلام أو الجزية، ثم يمهلهم ثلاثاً كعادة المسلمين، ثم يبدأ القتال فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر مخالف للإسلام كتب كهنتها رسالة إلى خليفة المسلمين في ذلك الوقت وهو عمر بن عبد العزيز (رحمه الله تعالى)، وأرسلوا بهذه الرسالة أحد أهل سمرقند يقول هذا الرسول: أخذت أتنقّل من بلد إلى بلد أشهراً حتى وصلت إلى دمشق دار الخلافة فلما وصلت أخذت أتنقل في أحيائها وأُحدِّث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان، فأخذت على نفسي إن نطقت باسم السلطان أن أؤخذ أخذاً فلما رأيت أعظم بناءٍ في المدينة دخلت إليه وإذا أناس يدخلون ويخرجون ويركعون ويسجدون، وإذا بحلقات هذا البناء، فقلت لأحدهم أهذه دار الوالي؟ قال: لا بل هذا هو المسجد؛ قال: صليت ؟ قال: قلت: وما صليت ؟ قال: وما دينك ؟ ، قال: على دين أهل سمرقند، فجعل يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته وشهدت بالشهادتين ثم قلت له: أنا رجل غريب أريد السلطان دلّني عليه يرحمك الله، قال أتعني أمير المؤمنين؟ قلت: نعم، قال: اسلك ذلك الطريق حتى تصل إلى تلك الدار وأشار إلى دار من طين، فقلت: أتهزأ بي؟ قال: لا ولكن اسلك هذا الطريق فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده، قال: فذهبت واقتربت وإذا برجل يأخذ طيناً ويسدّ به ثُلمة في الدار وامرأة تناوله الطين، قال: فرجعت إلى الذي دلّني وقلت: أسألك عن دار أمير المؤمنين وتدلّني على طيّان! فقال: هو ذاك أمير المؤمنين، قال: فطرقت الباب وذهبت المرأة وخرج الرجل فسلّم علي ورحّب بي وغسّل يديه وقال: ما تريد  قلت: هذه رسالة من كهنة سمرقند فقرأها ثم قلبها فكتب على ظهرها: من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله في سمرقند أن انصب قاضياً ينظر فيما ذكروا ثم ختمها وناولنيها فانطلقت أقول: فلولا أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق ماذا تفعل هذه الورقة وهذه الكلمات في إخراج هذه الجيوش العرمرم وذلك القائد الذي دوّخ شرق الأرض برمتها - يعني قتيبة بن مسلم - قال: وعدت بفضل الله مسلماً كلما دخلت بلداً صليت بمسجده وأكرمني أهله، فلما وصلت إلى سمرقند وقرأ الكهنة الرسالة أظلمت عليهم الأرض وضاقت عليهم بما رحبت ذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند فنصّب لهم القاضي جُمَيْع بن حاضر الباجي لينظر في شكواهم، ثم اجتمعوا في يوم وسألناه دعوانا فقلنا اجتاحنا قتيبة ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا لننظر في أمرنا فقال القاضي: لخليفة قتيبة وقد مات قتيبة - رحمه الله - أنت ما تقول قال: لقد كانت أرضهم خصبة وواسعة فخشي قتيبة إن أذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه، قال القاضي: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً، ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن يؤذنهم القائد بعد ذلك وفقاً للمبادئ الإسلامية، ما ظنّ أهل سمرقند أنّ تلك الكلمات ستفعل فعلها فما غربت شمس ذلك اليوم وفي أرض سمرقند رجل من الجيش الإسلامي، فقد خرج الجيش كله ثم دعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها، قالوا: هذه أمة حُكمُها رحمة ونعمة، فدخل أغلبهم في دين الله وفُرضت الجزية على الباقين. (4)

        إن الأساس الفكري لتسامح المسلمين مع مخالفيهم في الدين والذي لم تعرف له البشرية مثيل يعود إلى الأفكار والحقائق الناصعة التي غرستها التعاليم الإسلامية في عقول المسلمين وقلوبهم وأهمها:

1- إعتقاد كل مسلم بكرامة الإنسان أي كان دينه وجنسه ولونه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (5)، وهذه الكرامة المقررة توجب لكل إنسان حق الاحترام والرعاية .

2- اعتقاد المسلم أن اختلاف الناس في الدين واقع بمشيئة الله تعالى الذي منح هذا النوع من خلقه الحرية والاختيار فيما يفعل ويدع : { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} ، (6) { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }. (7)

3- إن المسلم ليس مكلفا أن يحاسب الآخرين على كفرهم أو يعاقب الضالين على ظلالهم فهذا ليس إليه وليس موعده في الدنيا إنما حسابهم إلى الله يوم الحساب وجزائهم متروك إليه في يوم الدين { وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * ٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (8).

4- إيمان المسلم بأن الله يأمر بالعدل ويحب القسط ويدعو إلى مكارم الأخلاق ولو مع المشركين ويكره الظلم ويعاقب الظالمين ولو كان الظلم من مسلم إلى كافر { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }  (9) (10)

 

الحواشي

 

مقالة منشورة في دورية النشرة والتي تصدر عن المعهد الملكي للدراسات الدينية، (العدد الثامن والأربعون، السنة الرابعة عشرة 2014، ص 13-33).

(1) الحوار من أجل التعايش، د. عبد العزيز بن عثمان التويجري، دار الشروق، (ط1)، 1419هـ - 1998م ص81 .

(2) ينظر: غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، د. يوسف القرضاوي ، ص47-48 (بتصرف) .

(3) من روائع حضارتنا ، مصطفى السباعي ، ص 138 .

(4) من روائع حضارتنا ، مصطفى السباعي ، دار الوراق للنشر والتوزيع ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، (ط1) ، 1420 هـ - 1999م ، ص78 .

(5) سورة الإسراء : الآية 70 .

(6) سورة الكهف : من الآية 29 .

(7) سورة هود : الآية 118 .

(8) سورة الحج : الآيات 68-69 .

(9) سورة المائدة : الآية 8  .

(10) غير المسلمين في المجتمع الإسلامي ، الشيخ يوسف القرضاوي ، ص54-55 .

bottom of page